مبارك أردول
نخشى إنها شرعنة جديدة للتهميش او حيلة للمحافظة على الدولة العميقة
يتردد هذه الأيام بعض الأحاديث عن حكومة التكنوقراط وما أدراك ما
هم، والتكنوقراط كلمة يونانية مقسمة الي جزئين (تكنو) أي فني و(قراط) وتعني تقني،
ويمكننا أن نقول بعد دمج الكلمتين أنها تعني الفنيين التقنيين الذين امتلكوا
الخبرة نتاج عملهم الطويل في وظيفة ما وأصبحوا أكفاء.
وبالرغم أن التخطيط لمفاهيم جديدة ينبغي أن يكون خطة ثورتنا، إلا
أن البعض اعادنا للحديث عن هذه القيم والإرث الذي لسنا جزءاً منه، ولكن لا بأس
دعنا نعبر عن مخاوفنا صراحة.
وعطفاً على ما سبق فإذا ما أتينا لربط وتعريف لهؤلاء التكنوقراط
وفق واقع دولتنا السودانية وتاريخها الذي نعيش حاضره اليوم، فاننا نجد أن الدولة
لم تبنى وتشكل بأسس عادلة ولا بمساواة بين كافة ابنائها منذ نشأتها، وكانت التنمية
وتركيز الخدمات والتوظيف مختلة منذ خروج المستعمر، ولو أخذنا عملية سودنة الوظائف
إبان الخمسينيات كنموذج فإنها كانت عملية مختلة أيضاً رغم تبريراتها ومحاولات
انكارها، فإننا نجدها قد رجحت الكفة وطففت على الأخرى. وتعود أسباب ذلك الترجيح
لتركز التعليم والخدمات وفق سياسات المستعمر حينها حول مناطق معينة في السودان،
واستبعدت الاخرى او همشتها، ولذلك كانت السودنة نتيجة حتمية لتقوم الخدمة المدنية
(بمن حضر) وتشكلت عبر مرور الأجيال طبقة التكنوقراط اليوم. وسياسات المستعمر أيّاً
كانت فلها أهدافها، ولكن استمرار الحكومات الوطنية بعدها في نفس عقلية الاختلال
وبشكل متعمد ولو بنسبة أقل فهي الملامة.
فالتكنوقراط الذين يحدثوننا عنهم اليوم من جهة هم نفس من حكموا أو
ظلوا في مؤسسات الدولة والحكم منذ الاستقلال وتوارثوها، وظِّف بعضهم بالمؤهل ولكن
الأغلبية الموجودة حاليا وظِّفوا بالمحاباة أو الوساطة الجهوية أو الأيدلوجية،
بسبب الخلل التنموي بين سكان الريف والحضر.
قد عاصرت طبقة التكنوقراط السياسات المدمرة التي أنتجت الفقر
والجهل والحروب ونفذها بعضهم بيده وآخرون تعاونوا وساعدوا وتستروا مع المخربين
والمفسدين، فكيف يكون بيدهم الحل وماذا سيفعلون؟.
تاريخ السودان يرينا أنه ظلت شعوبه تعاني من التهميش والإقصاء
الممنهج لمجموعات بعينها، وبنيت الدولة بشكل مختل كما ذكرنا منذ خروج المستعمر(
الاستقلال)، حيث ظل التوظيف في الوزارات والخدمة المدنية وخاصة السلك الدبلوماسي
وغيرها ظلت حكر على أقاليم وجهات ومجموعات محددة وبل يمكن تكون عند بيوتات محددة.
فالحديث بعد انتصار الثورة الظافرة اليوم عن الرجوع لحكومة للتكنوقراط حديث ينم عن
عدم وعي حقيقي وتكريس أو استمرار لنهج الإقصاء الذي ظل معمولاً به وتسبب في الحروب
والصراعات في البلاد حتى وصلت الي ثورة ديسمبر. ويذكرنا الحديث عن التكنوقراط
بعبارة قبيلة بنو هلال العربية الشهيرة عن فارسهم ابو زيد الهلالي " كأنك يا
أبو زيد ما غزيت"، فالثورة يجب أن تصحح الأوضاع القديمة وتضع نهجاً فارقاً عن
الماضي الأليم، لا تكراره بنفس الشخوص والعقول.
من جهة أخرى؛ احذروا من فخ التكنوقراط وتفحصوا مصدره فمن أي
الأفواه تخرج هذه الكلمة؟ فهي ربما تخرج من المجموعات التي تريد المحافظة على
الدولة العميقة والتي بنيت بالتمكين خلال العقود الثلاثة لحكومة الاسلاميين، لإن
حقبتهم كافية لتخرج (تكنوقراط) لا غبار عليهم.
نتساءل أيضاً من هم التكنوقراط المعنيين في السودان هل نحن متفقون
حولهم؟ أم لكل جهة تكنوقراطها؟ وهل هم يمثلون كل أقاليم السودان؟ هذه أسئلة مشروعة
لإن أحد مطالب الثورة هي أن يكون هنالك تنمية متوازنة يستطيع خلالها كل سكان
البلاد الحصول على التعليم وبقية الخدمات بالتساوي، وتخطيط تنموي وسياسات بديلة
تحل محل السياسات التي كانت قائمة، ولو كانت طبقة التكنوقراط موجودة في كل
المجتمعات وتمثل التنوع السوداني حقيقة فلما قامت الحروب والنزاعات والثورة؟ هذا
التخوف مشروع يجب الاستماع إليه وعدم تجاهله، ففي دول عانت من التهميش والاقصاء
مثل السودان ينبغي اعمال مبدا التمييز الايجابي للمجموعات المستبعدة بدلا عن
التكريس للوضعيات القديمة بدعاوى التكنوقراطية.
ما نريده حكومة يقودها أناسٌ لديهم قدر معقول من التأهيل لإدارة
دفتها، ويمثلون التنوع السوداني الذي جسدته شعارات الثورة "حرية وسلام
وعدالة، و"يالعنصري المغرور كل البلد دارفور"، تستطيع هذه الحكومة أن
تعالج التشوهات والاختلالات التنموية في بلادنا وتضمن مشاركة الجميع وتضع أساساً
لا يظلم فيه أحدٌ أو جهةٌ بعد اليوم.