السودان علي الشاشات: دولة الخرطوم HD


عثمان نواي
علي مدي ايام رمضان وأيام العيد التي نشهدها الان عرضت شاشات التلفزيونات الفضائية السودانية صورة HD عالية الدقة والنقاء لسودان يبدو أنه موجود فقط في التجمعات السكنية الراقية والمغلقة التي بدأت تنتشر مؤخرا في الخرطوم من أمثال الياسمين وغيرها . حيث الأسوار العالية والحراسة الأمنية المشددة تحكم السيطرة وتؤكد علي العوامل الفاصلة بين سكان تلك التجمعات وبين بقية أهل الخرطوم ناهيك عن بقية أهل السودان.
علي شاشات التلفزيون بدي السودان بألوان نقية وزاهية وأغاني بهيجة.. ليس فقط اغاني الحقيبة القديمة، بل هذه الأغنيات الجديدة علي الانغام المختلطة بين الريجي والروك مع شيء من الموسيقي العربية احيانا.. حيث أن اعلانات شركات الاتصالات والمشروبات وحتي الزيوت والبنوك، أتت علي هذه الانغام الرنانة المصنوعة بدرجات عالية من الهارموني بين آلالات الموسيقية.. وهو امر من غير المعتاد في الأغنيات السودانية التي تسمع فيها صوت كل آلة معزولا بشكل يبدو فوضويا احيانا.. لكن اغاني هذه الإعلانات كانت لها نغمات منتظمة سلسة وجذابة للاذن ويبدو أنها سجلت في استوديوهات حديثة عالية الدقة أيضا ومعزولة عن كل ضجيج محتمل..
هذا السودان المعروض علي الشاشات فيه أناس لهم ألوان بدرجات تبتعد بشدة عن سواد وسمرة وخضرة السودانيين.. وخاصة النساء حيث لهم درجة لون بياض الثلج..( ولمن لا يعلمون فبياض الثلج هذا هو اسم أهم خلطة فسخ وجلخ تساهم في عملية التبييض القومية الجارية الان لكل نساء وبنات السودان) . هذه الصورة العالية النقاء اريد بها إزالة تامة لكل الشوائب التي يمكن أن تعكر مزاج أهل المجمعات السكنية والفلل وسكان الشقق الفندقية. حيث أن السودان لا يوجد فيه فقر ولا جوع وحروب ولا إبادة ولا أزمة اقتصادية... بل لا توجد أي مشكلة علي الإطلاق... المشكلة الوحيدة هي الجدل والخلاف حول ملابس ممثلات مسلسل عشم... هل هي محتشمة وسودانية بشكل كافي اما لا... لكن لم يعلق احد علي عدسات عيون ممثلات عشم الزرقاء والخضراء والشقراء والتي من المستغرب أن تكون موجودة حتي في الدول العربية بشكل طبيعي ناهيك عن دولة أفريقية معلوم جيدا أن سكانها عيونهم عسلية كما كانت تذكر جميع جوازات السفر السودانية بشكل تلقائي قبل أن تصبح هي أيضا إلكترونية...
ما يثير الاهتمام أن هذا المشهد السوداني بهذه المواصفات أصبح مشهدا مكتملا لحالة من الانفصال التام للدولة المركزية والمتمثلة في دولة الخرطوم.. حيث أصبحت الخرطوم بذاتها دولة منعزلة لها شروط وحدود إقامة وانتماء ذات طابع ليس فقط اثني وعرقي واقتصادي. بل ذات طابع أكثر دقة مرتبط بدرجة معينة من اللون ونسبة محددة من الغني المادي والقدرة الشرائية والاستهلاكية. حيث يستغرب المرء أن في السودان من يشترون التفاح الأمريكي بما يساوي نصف مليون جنية ل 5 تفاحات. أي أن التفاحة ب مائة ألف جنيه بالقديم. هذا المستوي المعيشي المرتفع جعل من يتحكمون في الدولة من نظام المؤتمر الوطني وحلفاؤه من أصحاب المصالح يحاولون أن يصنعوا سودان علي صورتهم ويبيعوا الوهم لبقية الشعب في شكل مغري ورنان وألوان زاهية ونساء بمواصفات عربية أو أجنبية حتي يشعر الناس بأن هذا سودانهم أيضا.. بينما الحقيقة هي غير ذلك تماما. ان السودان الذي يتم الترويج له عبر هذا الشاشات عالية الدقة هو سودان انفصل فعليا عن بقية السودانيين المطحونين. حيث أن عوامل الفصل وشروط الانتماء لدولة الخرطوم العالية النقاء أصبحت تلفظ حتي المكونات الطبيعية للمركز بمفهومه السياسي والاقتصادي المتعارف عليه. فدرجات اللون المطلوبة للظهور علي الشاشات لا توجد طبيعيا حتي لأبناء وبنات الاثنية العربية وسكان الشمال والوسط... حيث اي درجات للسمرة أو اللون السوداني المسمي (أخضر) مهما كان درجته أصبح لا يسمح لصاحبته الاقتراب من الشاشة... في المقابل أصبح عبر هذه الشاشات هناك معايير جديدة للانتماء للدولة التي تمثلها وتنطق بلسانها هذه الشاشات. اللون هو عامل مهم حيث انه صنع جدار جديد جعل حتي أكثر من 90 من نساء السودان مضطرات الي الدخول في المشروع القومي للتبييض وانكار السحنات السودانية.
والمدهش أن عمليات محو السودان وصناعة دولة الخرطوم HD تقوم تحت شعارات أن هذا هو السودان. وهو عملية إختزال جديد للسودان لينحصر في مدينة بدلا عن كان حتي قبل أعوام منحصرا في مثلث حمدى الذي كان يشمل علي الاقل قرابة ثلث السودانيين. فإن العملية الجارية الان تقوم علي تضييق فرص الوجود في دولة الخرطوم، وحصر هذه الفرص في مجموعات الثراء الجديدة والقديمة المستفيدة من كل أزمات السودان. وهي أكثر استفادة من النظام الحاكم ومن الحروب وحتي الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة. فالدولة التي أصبحت ثاني مُصدر للذهب في افريقيا لا توجد فيها كهرباء ولا مياه وتسقط عملتها كل صباح. كيف يعقل هذا إلا في إطار الفهم الواضح لحقيقة أن دولة الخرطوم الموجودة ألغت تماما كل السودان كدولة مفترض بها تقديم خدمات اورعاية المواطنين. فبالنسبة لمواطني دولة الخرطوم لا يمثل بقية السودان سوي أرض بور يبيعونها للمستثمرين ويأخذون عمولات بالدولار في بنوك ماليزيا ودبي، أو ينقبون عن الذهب في الأجزاء الغنية به. أما البشر فلا قيمة لهم إلا كحراس تأمين، وهذا ما يلعبه الجنجويد كمرتزقة يحرسون سكان المجمعات السكنية وكافورى من احتمالات الغضب التي تقض مضاجعهم.
كما أن من الملاحظ أن مقدار التركيز الخرافي على خدمات الترفيه من مطاعم وصالات أفراح ومباني وشقق فاخرة وخدمات التجميل وبيع الملابس وارتفاع عدادات الفنانين والفنانات بأرقام خرافية، يوضح أن الفئة المسيطرة علي البلد تعيش بفائض عالي من الاموال يتم صرفه علي هذه القطاعات التي أصبحت تقريبا القطاعات الوحيدة المدرة للدخل وبشكل مبالغ فيه. حيث تحولت كثير من الشابات من الخريجات لخبيرات تجميل وحنانات ومغننيات وصانعات ثياب... وتحول كثير من الشباب الي مغنين وعازفين وعمال مطاعم وصالات ومصورين أفراح... و سائقي شركات النقل من أمثال ترحال وغيرها من المهن التي تدر الدخل والتي تخدم متطلبات الرفاهية لسكان دولة الخرطوم... بينما أصبح بقية السكان في داخل الخرطوم خارج دوائر الثروات والمال يعملون في خدمة اسياد البلد الجدد.
من المؤسف أن البعض يرى في هذه المظاهر تطورا أو تغييرات إيجابية. لكن حقيقة الأمر أن هذه الألوان العالية الدقة علي الشاشات ومحاولة اختصار السودان في بعض الأنغام والصور والأفلام المصنوعة بسطحية وكثير من الزيف هو محاولة اغتيال حقيقية لأي تغيير ممكن. حيث يبدو جليا أن الصورة المرسومة للسودان خاصة علي أيدي أبناء السودانيين العائدين أو المقيمين في الخليج أو حتي القادمين من الدول الغربية هي صورة تخدم مصالحهم الخاصة في معالجة أزمة اضطهادهم بسبب اللون في تلك الدول والعجز عن التعبير عن هوية سودانية فخورة بذاتها. هذا اضافة الي ممارسة الهروب من المنافسة الحقيقية خاصة في الدول الغربية التي ستظهر إمكانياتهم بجلاء… فيفي محاولة لوراثة امتيازات أهلهم ولكن بشكل أكثر احترافية وتركيز هذه المرة.. لذلك لجأ بعض أبناء المغتربين والمهاجرين للعودة للسودان ومحاولة صنع سودان خفيف يتحملونه دون كثير مشاكل أو صداع... سودان يعجبون بأن لديه أهرامات ويحولون بعض ازياء شعوبه التقليدية الي اكسسوارات وانتيكات للزينة… ويقومون بإعادة إنتاج اغنياته علي شكل الروك باندز.. المؤسف انه وحتي التعاطف مع الفقراء والمساكين والمشردين يتم باقتطاع كامل للحالات من سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي وادخالها في طابع ديني أو طابع خلاص فردي لا علاقة له ابدا بازمات الوطن والحاجة الي الخلاص الجماعي لشعب بأكمله... ان هذه الفئة لها أهمية لأنها هي التي تقدم خدمات التطوير التقني والفني بخبراتها المكتسبة من الخارج. وهي بلا شك تسهم في إنتاج السودان بشكل سياحي كما يقولون، ربما لأن السودان بالنسبة لكثيرين منهم هو سياحة أو وطن ثاني وربما مرحلة عبور فقط مثلما يفعل طلاب بعض أبناء المغتربين من الغرب الذين يأتون للدراسة في جامعات مثل مأمون حميدة حتي يختصروا دراسة الطب الصعبة في دول مثل بريطانيا.. ولا شك أن الطريق الملتوي نحو الأمتيازات واللهث خلف المال اوصل العديد من هؤلاء الي حضن داعش. ونجح في وضع السودان في مصاف العالمية لكن ليس في الفنون ولا العلوم ولكن في تصدير الإرهابيين والعقول المتطرفة. ولذلك يعيش هؤلاء في السودان منفصلين عن واقع البلد ويشعرون انهم غير مضطرين لمواجهة كل تعقيدات واقعه المؤلمة وبالتالي يصنعون له أزمات أكثر ولا يقدمون سوي حلول سطحية منفصلة عن الواقع بقدر انفصالهم عن بقية السودان في داخل دولتهم الخرطومية.
علي الشاشات وعبر مواقع التواصل الاجتماعي يقوم مواطني وقادة دولة الخرطوم العالية الدقة.. بعملية فصل من نوع جديد لمكونات السودان. هذا الفصل سيكون له آثاره السالبة علي كل السودانيين هذه المرة وليس علي الهامش فقط. حيث أن أهل الهامش اعتادوا العيش في حالة التهميش والعنت.. لكن دولة الخرطوم تقوم بحصر جميع الموارد في فئة ضيقة وتخرج جميع السودانيين خارج نطاق تلك الدولة لكي يعيشوا علي الفتات أو علي تحويلات المغتربين... حيث لا توجد الان في السودان دولة تقدم أي خدمات حقيقية. وخصخصة الدولة وصلت إلي درجة أن التجمعات السكنية الخاصة الفاخرة ستصبح قريبا هي فقط التي تتمتع بتلك الخدمات المدفوعة الأجر... وبقية الشعب خارج الأسوار لن يكون له أي حقوق. وتعلو الحواجز لتفصل هذه الدولة تماما حتي عن بقية سكان الخرطوم نفسها ممن يسكنون أطرافها وان كانت عريقة أو قديمة. فكل من لايصلح لأن يكون بمواصفات ال HD فعليه أن يقطع اي ( عشم) في الانتماء لدولة الخرطوم عالية الدقة.
nawayosman@gmail.com

Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق