الصادق المهدي: بين تدليس التاريخ والتخفي في ثوب القديس



بقلم عثمان نواي
في لقاءات مطولة نشرت مؤخرا علي صفحة الصادق المهدي علي الفيس بوك إضافة الي مواقع إلكترونية عدة، صرح الإمام بقدر هائل من التصريحات التي لا يمكن وصفها سوي بأنها تدليس كامل للحقائق السياسية التاريخية والراهنة في المشهد السوداني المأزوم. كما أن إجابات الرجل علي الأسئلة الصريحة للمحاورة التي أجادت طرح مسائل هامة عديدة، إجاباته كانت تنضح بخيلاء وتعالي وعنصرية فجة مستترة ومعلنة إضافة إلي قدر هائل من التوهم وتضخيم الذات. في ما يلي ساعرض لبعض النقاط الأكثر أهمية التي وردت في مانشر من الحوار حتي الآن.
حيث ان الصادق المهدي في إجابة سوال حول دوره في تسليح المليشيات العربية أو تكوين قوات الجنحويد قال : ( حكومة سوار الدهب قررت أن تعطي حرس العمده سلاح ليدافعوا به عن أنفسهم و قراهم من هجوم الحركة الشعبية فكانت عبارة عن عملية دفاع عن النفس و في حدود صد الهجوم القادم من الحركة الشعبية لعمل تطهير عرقي للوجود العربي في الجبال لذلك أعطي حرس العمد سلاح للتمكين و الدفاع عن النفس فقط و عندما جاءت حكومتنا أبقت على سياسة حرس العمد هذه.) أن هذه الإجابة لهي نموذج فاضح علي تدليس الحقائق وعلي العنصرية الحقيقية وعدم الاعتراف بالحق بينما الرجل يحتفل بأعياد ميلاده التي تشارف علي إطفاء 90 شمعة، ولكنه لا يزال مصرا علي الكذب حتي يكتب عند الله كذابا، هذا في أضعف الوصف. يوثق المؤرخ البريطاني روبرت كولينز في كتابه القيم تاريخ السودان الحديث لفترة حكم الصادق المهدي والصراع مع الحركة الشعبية والأوضاع في الجنوب بدقة. وفي وصفه لفترة حكم الصادق في نهاية الثمانينات قال كولينز : " وإزاء الفوضي التي حلت بالجيش ومواجهة شبح الهزيمة اتخذ الصادق المهدي قراره الخطير بإطلاق مليشيا المراحيل لاحتواء الحركة الشعبية في بحر الغزال واعالي النيل وهو القرار الذي تزامن بشكل مأساوي مع المجاعة الناجمة عن جفاف الثمانينات." عن نفس الفترة أيضا كتبت تقارير منظمات دولية عدة من أهمها منظمة هيومن رايتس ووتش عن هجوم المراحيل علي سكان جنوب السودان وجبال النوبة واصفة هذه المليشيات بأنها صناعة كاملة لحزب الأمة في أثناء فترة حكمه ما بعد الانتخابات في الديمقراطية الثانية. حيث ان تقرير هيومن رايتس ووتش حول المجاعة في السودان والمخصص لدورمليشيات المراحيل في تلك المجاعة يقول : (أن هجمات مليشيات الرجال علي الاحصنة كان لها الدور الأساسي في صناعة مجاعتي 1988و1998..) أن هذا التقرير يحلل ويلقي اللائمة بشكل مباشر علي حزب الأمة وحكومته في الفترة من 1986 حتي 1989 في صناعة مليشيات المراحيل التي هددت أمن وشردت مئات الآلاف من الجنوبيين وأهل جبال النوبةوتسببت في حرق الأراضي ونهب الماشية واسترقاق النساء كما يذكر التقرير، الأمر الذي أدى إلي نزوح عشرات الآلاف وفي النهاية الي مجاعة قاتلة مات خلالها عشرات الآلاف أيضا .
يحلل تقرير هيومن رايتس ووتش أسباب تشكيل مليشيات المراحيل من قبل حزب الأمة في تلك الفترة ويذهب الي أن الحزب الذي كان يحكم نتيجة لانتخابات وصفتها هيومن رايتس ووتش في ذات التقرير بأنها غير شاملة لأنها استثنت الجنوب وقطاعات من جبال النوبة، عزي التقرير تشكيل المليشيات من قبل الأمة الي خوف الحزب من اختراق الجبهة الإسلامية لقاعدة مناصريه الطبيعيين ضمن قبائل العرب في دارفور وجنوب كردفان مما حدي بالحزب الي تسليح هذه القبائل والسماح لها بالقيام بهجوم علي الجنوب وجبال النوبة والحصول علي الغنائم وذلك مع ضمان كامل الحصانة ضد أي محاسبة علي تلك الجرائم. (تقرير هيومن رايتس ووتش : المجاعة في السودان 1998).
في ذات الإطار يقول كولينز حول دور المراحيل والمهدي في مجاعة 1988و المعاناة الإنسانية التي جرت في الجنوب وجبال النوبة تلك الفترة قائلا :" خلال شتاء 1986 و 1987 قام المراحيل في شمال بحر الغزال بتدمير عشرات قرى الدينكا وإحراق محاصيلهم واستولوا علي مئات الألوف من رؤوس الماشية واضطر ربع مليون من الدينكا الي الفرار الي مناطق الحركة الشعبية طلبا للأمن.. والحماية حيث اندفع مقاتلو الحركة لانقاذهم وطردوا المراحيل الي ما وراء بحر العرب بل تتبعوهم في يناير 1987 الي ما وراء حتي جنوب كردفان حيث اوقعوا بفصيل كبير منهم. " ويواصل كولينز سرد الأحداث بقوله :" عندما فشل الجيش السوداني في إيقاف هجوم الشتاء هذا للحركة الشعبية، عين الصادق المهدي اللواء فضل الله برمة ناصر وزير دولة للدفاع وأعطاه الأوامر بصد قوات الحركة الشعبية. فاقترح تسليح شباب القبائل العربية بأسلحة آلية كلاشنيكوف السوفيتية وإطلاق أيديهم في نهب وقتل الدينكا الذين ستشل الحركة الشعبية إذا خسرت دعمهم." ويعلق كولينز علي هذه الخطوة بقوله :" وهكذا في واحد من أخطر القرارات السياسية للصادق المهدي قرر في فبراير 1987، تحويل المراعي الخضراء في بحر الغزال الي حقول للقتل. "
وبعد كل هذه الحقائق التاريخية الموثقة لدي المؤرخين العالميين والمنظمات الحقوقية الدولية يأتي الصادق المهدي بكل تعالي وعنصرية وكذب فج ليقول :" حكومة سوار الدهب قررت أن تعطي حرس العمده سلاح ليدافعوا به عن أنفسهم و قراهم من هجوم الحركة الشعبية فكانت عبارة عن عملية دفاع عن النفس و في حدود صد الهجوم القادم من الحركة الشعبية لعمل تطهير عرقي للوجود العربي في الجبال لذلك أعطي حرس العمد سلاح للتمكين و الدفاع عن النفس فقط و عندما جاءت حكومتنا أبقت على سياسة حرس العمد هذه." اي ضحك علي العقول واي وهم يعتقد هذا الرجل المنتفخ الذات يظن أنه سيزرعه في عقول السودانيين وأبناء الهامش خاصة؟ هل يظن اننا لا زلنا في سنة 1882حيث يستطيع أن يحلم كجده ويروي أحلاما وروايات ثم يصدقه الناس فقط لأنه له لحية مصبوغة متشبها بالرسول كما يدعي؟ اننا في القرن الواحد والعشرين حيث أن المعلومة والحقيقة أصبحت تحت أصابع كل إنسان. ولا تنتج توهمات وتلفيق الحقائق الا ممن يريدون بكامل الوعي تزوير التاريخ لكي ينجوا من جرائمهم في الماضي التي يعلمون جيدا انهم ارتكبوها.
والرجل يضع نفسه كما يقول موضع المصلح الداعي الي المحاسبة في الوقت الذي لا يعتمد سوي علي أوهام قداسة يعتقد أنها ستمنع عنه مساءلات موثقة سيأتي وقتها لا محالة. حيث يقول الصادق مصرا علي التدليس والتزوير :(موضوع تجنيد القبائل العربية أو الأفريقية في الماضي و الحاضر هي مسائل فيها documentary و أي شخص يتهمنا بأي تهمة في هذه المسائل عليه أن يثبت بالدليل". الدليل موجود في صفحات تقارير المنظمات الدولية وفي الكتب التاريخية في ذاكرة الضحايا، ولكن الصادق بكل عنجهية يعتقد أن عمامته التي تقيه الشمس هي ذات عمامة القداسة التي ستمنحه حصانة أبدية. فهو يرى البعض ما زالو يضعونه موضع القائد لهم، لكن الرجل لا يعلم أن هناك تاريخ يسجل وهناك عقول واعية توثق كما أن هناك شعوب تعي جيدا أن حقها لا يسقطه التقادم. خاصة جرائم الحرب التي لا ينتهي حق المطالبة بها.
يقول روبرت كولينز : " كان الصادق المهدي قد أطلق منفردا المراحيل علي المدنيين الدينكا ما أثار كثير من اشمئزاز الضباط المحترفين في الجيش. وكانت اغلب غارات المراحيل علي نمط واحد وهو ذاته الذي اتبعه الجنجويد في دارفور بعد 15 عاما." ويصف كولينز هذه الغارات قائلا :" عند الفجر تتم مهاجمة قرية الدينكا ويقتل جميع الذكور البالغين الذين لم يتمكنوا من الفرار وتُغتصب النساء ويُستعبد الأطفال. ثم تُحرق القرية وتطمر الآبار بجثث الدينكا ويتم تدمير المدارس والمستشفيات وأما قطعان الماشية فتؤخذ كغنيمة." وهذا مطابق لسيناريوهات هجمات الجنجويد التي وثقتها محكمة الجنايات الدولية وأدانت من خلالها البشير. وهذا السيناريو كان ينفذ أيضا في قرى جبال النوبة في تلك الفترة. ولكن يأتي المهدي ليحاول تدليس الحقائق ويقول إن :" جون قرنق و الحركة الشعبية قرروا مهاجمة الوجود العربي في جبال النوبة وعملوا تطهير عرقي للقبائل العربية في الجبال، وان يوسف كوه كان يهاجم بالتحديد القبائل العربية في جبال النوبة و النيل الأزرق و يعتدي على قراهم و مناطقهم لذلك سلحوا حتى يدافعوا عن أنفسهم من حملة التطهير العرقي للوجود العربي في الجبال." يبدو أن الرجل يستخدم ما يسمي في علم النفس بعملية إسقاط للذات في ما ورد في هذا الحوار . فهو في الحقيقة من قام بعمليات الأبادة الممنهجة ضد شعوب جبال النوبة وجنوب السودان، حيث انه من المعروف أن هجوما مستمرا لقوات المراحيل كانت سببا في نزوح آلاف مواطني جبال نوبة وانضمام الكثير من الشباب الي الحركة الشعبية. نتيجة للعدوان والتنكيل المستمر علي مناطق مختلفة في الجبال . كما أن الأبادة كانت في يد المهدي وهو رئيس الدولة وفي قدرته إصدار القرارات التي قام فعليا كما وثق كولينز وتقرير هيومن رايتس ووتش باتخاذها كما ان نتائجها الكارثية أدت إلي أن تقوم الحركة الشعبية في جبال النوبة وجنوب السودان باتخاذ إجراءات لحماية المدنيين الفارين إلي مناطقها وحمايتهم من هجمات المراحيل أو الجنجويد في نسختهم الأولي كما أكد كولينز فيما اوردنا اعلاه.
ان الصادق المهدي الذي في جزء آخر من الحوار معه وضع نفسه مكان القديس والمصلح متوهما انه في مصاف رجال كمانديلا قائلا إنه مهموم بالوساطة بين الهامش والمركز وأنه يريد حلا وطنيا سلميا للسودان. في حين إنما هو رمز اساسي لازمات السودان واحد مصادرها الرئيسية ليس فقط بسبب جرائمه التاريخية فقط ولكن بسبب ممارسته التدليس والتزوير في التاريخ والواقع. ورغم محاولته استغلال الواقع السياسي المضطرب لكي يركب علي ألموجة مرة أخرى إلا أنه يجب أن لا ينسي أن المستقبل لا يحمل له سوي ما يحاول الهروب منه الان بمثل هذا التدليس والكذب، وهو المحاسبة. المحاسبة ليس فقط علي صفحات الانترنيت و كتب التاريخ التي سترسم صورته الحقيقية البعيدة كل البعد عن هذه القداسة المتوهمة. بل أيضا أن ظل حيا ستكون المحاسبة له ولكل من ساهم معه في جرائمه ومن يغطي عليها الآن. فشعوب الهامش لا تحتاج الي واسطة لتصنع سلامها وحوارها. حيث ان هناك عمل جاد من أجل فتح ملفات المحاسبة والتعامل مع الهاربين منها لن يكون بالمطايبة ولن تقي اثواب القداسة الزائفة أصحابها شر الحساب. ان الوعي الذي نضج تماما تحت نيران المحارق التي التهمت الهامش، جعلت العدالة والمحاسبة علي الجرائم البشعة التي جرت هي أولوية قصوى لاجندة التغيير الحقيقي الذي يرسي مبادئ مواطنة تختلف عن الدخول في جلابيب الآباء والأجداد المرقعة بأفكار نصفها اضغاث احلام ما لها في الواقع من أثر. والمهدي الذي مازال يظن أن له جماهير في جبال النوبة ودارفور عليه أن يقف ويراجع وان يقوم بعملية reality check لأن الواقع يتجاوز هذه الافتراضات. فالثورة المهدية التي يستند إليها المهدي موجودة داخل المحمول اللغوي الثقافي في كثير من المجموعات في الهامش ومنها جبال النوبة بذاكرة مليئة بالالام والمرارات. حيث أن تاريخ المهدية ما كان سوي تاريخا من الحروب والمجاعات والاستغلال، وكانت روية وطنية قاصرة حولت أهالي هذه المناطق لجنود وأدوات لخوض الحروب لا أكثر ولا أقل. والمهدي يعلم جيدا أن ما يتحدث عنه من قاعدة جماهيرية في كثير من مناطق الهامش لم يعد موجودا. لأن الكذبة التي صدقها البسطاء قبل مائتين عاما لم يعد يصدقها احد الان. فالمهدي نفسه الذي حكم ثلاث مرات لم يتمكن سوي من صناعة الكوارث ولم يقدم أي مشروع وطني سياسي أو اقتصادي ينقذ البلاد وهذا امتدادا للكوارث التي صنعتها المهدية التي ابادت ثلثي سكان السودان بالحروب والمجاعات والاسترقاق دون أن تكون اي دولة وطنية جامعة لكل السودانيين، ووريثها المهدي الصغير سار علي ذات الدرب.
وما وجود الصادق سوى حائل يمنع فتح الملفات الحقيقية لازمات السودان. فالرجل لا يجيد سوي التدليس واحتقار الآخر وربما يكون عدم وجوده في أي عمل حقيقي نحو التغيير هو بداية طريق المحاسبة وأيضا بداية لفتح الباب نحو مكاشفات حقيقية وتغيير جذري لا يبدأ فقط بالنظام بل يبدأ بالأسباب والجذور التي أدت إلي وجود النظام واستمراره وفشل إسقاطه والمهدي يقع في مركز كل هذه القضايا. ولذلك فإن مواجهة هؤلاء القديسين المزيفين وإسقاط اقنعتهم هي بداية التغيير الحقيقي في السودان.
nawayosman@gmail.com



Share on Google Plus

عن المدون gazalysidewalk.com

هنا نبذة عن المدون ""
    Blogger Comment
    Facebook Comment

0 comments:

إرسال تعليق