المقدمة
في قلب أفريقيا، حيث يلتقي النيل الأبيض
بالنيل الأزرق، نشأت حضارة عريقة أنجبت ملوكاً عظاماً حكموا أقوى إمبراطورية في العالم
القديم. من بين هؤلاء الملوك، يبرز اسم تهارقة - الملك السوداني الذي حكم من قلب النوبة
حتى شواطئ البحر المتوسط، وخلّد اسمه في صفحات الكتاب المقدس كحامي مدينة القدس.
هذه قصة ملك أسود البشرة، قوي الإرادة،
جمع بين القوة العسكرية والحكمة السياسية، وترك بصمة لا تُمحى في تاريخ الحضارة الإنسانية.
الفصل
الأول: الخلفية التاريخية
مملكة كوش: القوة الصاعدة من الجنوب
في القرن الثامن قبل الميلاد، بينما كانت
مصر الفرعونية تعاني من الضعف والانقسام، كانت مملكة كوش في شمال السودان تشهد نهضة
حضارية كبرى. عاصمتها الدينية نَبَتة (قرب كريمة الحالية) كانت مركزاً لعبادة الإله
آمون، وقاعدة انطلاق لملوك طموحين.
الفراعنة السود: عندما حكم السودانيون مصر
حوالي عام 750 ق.م، قاد الملك الكوشي بعانخي
(والد تهارقة) حملة عسكرية ناجحة شمالاً، وتمكن من توحيد مصر تحت حكمه. هكذا ولدت الأسرة
الخامسة والعشرون - أسرة الفراعنة السود الذين حكموا من الشلال السادس جنوباً حتى دلتا
النيل شمالاً.
الفصل
الثاني: ميلاد الأمير ونشأة المحارب
الولادة في القصور الملكية (710 ق.م)
وُلد تهارقة حوالي عام 710 ق.م في القصر
الملكي بنبتة. كان ابناً للملك العظيم بعانخي من إحدى زوجاته الملكيات، وأخاً للملوك
الذين تعاقبوا على العرش: شباكا وشباتاكا.
التربية الملكية
نشأ الأمير الصغير في بيئة تجمع بين:
* التقاليد النوبية الأصيلة: الفروسية، القتال،
الصيد
* الثقافة المصرية العريقة: الكتابة الهيروغليفية،
الطقوس الدينية، فنون الحكم
* التعليم العسكري: استراتيجيات الحرب، قيادة الجيوش
الشاب في أرض الفراعنة
وفقاً لنقوش معبد الكوة التي كتبها تهارقة
بنفسه، أُرسل وهو في العشرين من عمره إلى مصر ضمن حملة عسكرية. هناك أبدى شجاعة وحكمة
لفتت انتباه الجميع، وبدأ نجمه يسطع كقائد عسكري واعد.
الفصل
الثالث: الصعود إلى العرش (690 ق.م)
عندما توفي الملك شباتاكا عام 690 ق.م دون
وريث مباشر، اختار كبار رجال الدولة والكهنة الأمير تهارقة ليكون الملك الجديد. كان
الاختيار موفقاً - فقد أثبت تهارقة خلال السنوات السابقة أنه يمتلك كل صفات القائد
العظيم.
التتويج
المزدوج
تُوج تهارقة مرتين:
1. في نبتة: كملك على كوش في معبد آمون المقدس
2. في منف: كفرعون على مصر وفق التقاليد المصرية
العريقة
أصبح يحمل الألقاب الملكية الكاملة:
"ملك مصر العليا والسفلى، سيد الأرضين، ابن رع، محبوب آمون".
الفصل
الرابع: العصر الذهبي (690-670 ق.م)
النهضة المعمارية
شهدت السنوات العشرون الأولى من حكم تهارقة
نهضة معمارية لم تشهدها المنطقة منذ عصر رمسيس الثاني:
في مصر:
* بنى عموداً ضخماً في معبد الكرنك (لا يزال
جزء منه قائماً)
* جدد معابد منف وطيبة
* رمم الأهرامات القديمة في سقارة
في النوبة:
* وسّع معابد جبل البركل المقدس
* بنى معابد جديدة في الكوة وصنم أبو دوم
* شيّد القصور الملكية في نبتة ومروي
الإدارة الحكيمة
* أعاد تنظيم الإدارة في الأقاليم
* عيّن حكاماً من الكوشيين والمصريين الموثوقين
* اهتم بمشاريع الري والزراعة
* أحيا طرق التجارة بين أفريقيا وآسيا وأوروبا
الازدهار الاقتصادي
* تدفق الذهب من مناجم النوبة
* ازدهرت التجارة في البخور والعاج والأبنوس
* نشطت الصناعات الحرفية والفنون
الفصل
الخامس: تهارقة ينقذ القدس (701 ق.م)
التهديد الآشوري
في مطلع القرن السابع ق.م، كانت الإمبراطورية
الآشورية (في العراق الحالي) بقيادة الملك سنحاريب تجتاح الممالك الصغيرة في الشام
وفلسطين. وصلت جيوشه الجرارة إلى أسوار القدس وحاصرت المدينة المقدسة.
نداء الاستغاثة
الملك حزقيا ملك يهوذا، المحاصر في قلعته
بالقدس، أرسل رسله إلى مصر طالباً النجدة. كان يعلم أن مصر بقيادتها الكوشية القوية
هي الأمل الوحيد في وقف الزحف الآشوري.
المسيرة
الملحمية
استجاب تهارقة - الذي كان آنذاك ولياً للعهد
وقائداً عسكرياً - للنداء. قاد جيشاً ضخماً من المحاربين النوبيين والمصريين في مسيرة
ملحمية عبر صحراء سيناء. كان الجيش يضم:
* الفرسان النوبيين المشهورين بشجاعتهم
* رماة الأقواس الكوشيين الماهرين
* المركبات الحربية المصرية
* فيلة الحرب (لأول مرة في تاريخ المنطقة)
الإنقاذ
المعجزة
عندما وصلت أنباء اقتراب جيش تهارقة الضخم
إلى سنحاريب، أدرك أنه محاصر بين مدينة القدس المحصنة وجيش قوي قادم من الجنوب. قرر
الانسحاب فوراً، رافعاً الحصار عن المدينة المقدسة.
الذكر في الكتاب المقدس
هذا الحدث التاريخي مسجل في:
* سفر الملوك الثاني 19:9: "وسمع عن
ترهاقة ملك كوش قائلاً قد خرج ليحاربك"
* سفر إشعياء 37:9: يذكر نفس الحدث
هكذا أصبح تهارقة الملك الأفريقي الوحيد
المذكور بالاسم في الكتاب المقدس!
الفصل
السادس: مواجهة العاصفة الآشورية (671-664 ق.م)
عودة
التهديد
بعد ثلاثين عاماً من السلام والازدهار،
عادت الإمبراطورية الآشورية أقوى من ذي قبل. هذه المرة بقيادة الملك أسرحدون الذي أقسم
على الانتقام من مصر.
الغزو الأول (671 ق.م)
في معركة ضارية قرب منف، انتصر الآشوريون
واحتلوا شمال مصر. انسحب تهارقة جنوباً إلى طيبة، لكنه لم يستسلم. بدأ في إعادة تنظيم
قواته وإعداد المقاومة.
المقاومة البطولية
لمدة سبع سنوات، قاد تهارقة حرب استنزاف
ضد الآشوريين:
* هجمات خاطفة على الحاميات الآشورية
* قطع خطوط الإمداد
* استعادة مدن في الدلتا
المعركة
الأخيرة
عام 667 ق.م، قاد آشور بانيبال (ابن أسرحدون)
جيشاً أكبر وطارد تهارقة حتى طيبة. في معركة أخيرة بطولية، قاتل الملك المسن ببسالة،
لكن التفوق العددي للآشوريين كان حاسماً.
الفصل
السابع: العودة إلى الجذور (664 ق.م)
الانسحاب
الاستراتيجي
قرر تهارقة، وهو في السبعين من عمره، الانسحاب
إلى موطنه الأصلي في كوش. لم يكن هذا استسلاماً بل حكمة - فقد أراد الحفاظ على مملكة
كوش قوية ومستقلة.
الأيام
الأخيرة
قضى تهارقة أشهره الأخيرة في نوري، يشرف
على بناء هرمه الجنائزي ويسجل أمجاده للأجيال القادمة.
الوفاة والدفن (664 ق.م)
توفي الملك العظيم عام 664 ق.م ودُفن في هرم ضخم في نوري - أكبر هرم ملكي في النوبة، شاهداً على عظمة آخر الفراعنة السود الكبار.
الفصل
الثامن: الإرث الخالد
الآثار
الباقية
في مصر:
* العمود الضخم في الكرنك
* نقوش ونصوص في معابد طيبة
* ترميمات في سقارة ومنف
في السودان:
* الهرم الملكي في نوري
* معابد جبل البركل
* نقوش الكوة التاريخية
التأثير
الحضاري
* أحيا التقاليد الفرعونية القديمة
* مزج بين الثقافتين النوبية والمصرية
* أثبت قدرة الأفارقة على قيادة أعظم حضارات
العالم القديم
الذكرى في الثقافة العالمية
* في التراث اليهودي والمسيحي: البطل الذي
أنقذ القدس
* في التاريخ الأفريقي: رمز العظمة والكبرياء
* في الدراسات الحديثة: نموذج للتعددية الثقافية
والقيادة الحكيمة
الخاتمة:
دروس من حياة ملك عظيم
قصة تهارقة تعلمنا أن:
* العظمة لا تُقاس باللون أو العرق بل بالإنجازات
* الحضارة الأفريقية كانت في قلب التاريخ
العالمي
* الشجاعة والحكمة يمكن أن تغير مجرى التاريخ
* التراث الثقافي باقٍ حتى بعد زوال الإمبراطوريات
في زمن يحتاج فيه العالم إلى نماذج للقيادة
الحكيمة والتعايش الثقافي، تظل قصة تهارقة - الملك الأسود الذي حكم أعظم حضارة في العالم
القديم وحمى مدينة مقدسة لثلاث ديانات - مصدر إلهام وفخر لكل أفريقيا والإنسانية جمعاء.
قائمة
المصادر والمراجع
المصادر الأثرية الأولية:
1. نقوش معبد الكوة - Macadam, M.F.L.
(1949) The Temples of Kawa, Oxford University Press
2. لوحات جبل البركل - Eide, T. et al.
(1994) Fontes Historiae Nubiorum, Vol. I, Bergen
3. نقوش الكرنك - Leclant, J. (1965)
Recherches sur les monuments thébains, Cairo
المصادر
المكتوبة القديمة:
1. الكتاب المقدس - سفر الملوك الثاني
19:9، سفر إشعياء 37:9
2. السجلات الآشورية - Luckenbill, D.D.
(1927) Ancient Records of Assyria and Babylonia, Chicago
المراجع
الحديثة الأساسية:
1. Török, László (1997) The Kingdom of Kush, Leiden: Brill
2. Morkot, Robert (2000) The Black Pharaohs, London: Rubicon
Press
3. Welsby, Derek (1996) The Kingdom of Kush, British Museum
Press
4. Bonnet, C. & Valbelle, D. (2006) The Nubian Pharaohs,
AUC Press
5. Kitchen, K.A. (1986) The Third Intermediate Period in Egypt,
Warminster
المراجع
العربية:
1. د. محمد إبراهيم بكر (1967) تاريخ السودان
القديم، القاهرة
2. د. أسامة عبد الرحمن النور (2004) دراسات
في تاريخ وآثار السودان القديم
3. د. صلاح عمر الصادق (2012) مملكة كوش: التاريخ
الحضاري للسودان القديم
